موسم جني الزيتون في تونس .. قصة موسم يبعث الأمل من رحم المعاناة
لم تنل الأيام من عزمها، رسم الزمان أخاديد على وجهها، لكنه لم يفت من عضدها، تستيقظ باكرا في أيام الشتاء الباردة، تتجه نحو حقل الزيتون المترامي الأطراف وهي تردد ما يبدو أنه وردها اليومي، استدرارا للبركة وأملا في يوم وفير الغلة قليل العناء
تلك هي حال محرزية، أو قل إنها حال عشرات المئات من النسوة التونسيات اللائي يُقبلن في هذه الفترة من السنة على العمل في موسم جني الزيتون، تلك الشجرة المباركة، دائمة الخضرة التي تبشر دوما بالخير الوفير، وبموسم من الأمان تساهم فيه العائلات القروية التونسية بكبيرها وصغيرها
رغم عبء السنين وكل ألوان المشقة وضروب العناء، تمضي محرزية وقد شاب منها المفرقان، واثقة تتفقد حبات الزيتون، ترمق الأشجار بنظرة العارف، تدرك من أين ينبغي بدء الجني، دون التوقف عن ترديد وردها.. ذاك الذي تعرف وحدها أسراره
في الجوار نسوة أخريات.. لسن بمنافسات، بل الكل يساهم في العمل أو في الموسم الذي يبعث على الأمل، حرصا على عدم تفويت هذه الفترة المتميزة من السنة أو قل من الحياة، وسعيا إلى كسب الرزق في ظرف صعب. تفرش النسوة أغطية تحت الشجر، وتضعن السلالم الخشبية دون وجل، بل بثقة كبيرة، لتبدأ عملية القطاف قبل تسلل أشعة الشمس.. وكأنها طقوس يوم عيد ضارب في عمق التاريخ.
تأبى محرزية الكشف عن عمرها، وتنظر أرضا عندما تُسأل .. تقول إنها “لا تحصي السنين التي انطوت”، وفي الأجواء ضحكات متكتمة من رفيقاتها اللائي يتهامسن بحديث لا يكاد يُسمع
تتساقط حبات الزيتون تباعا كأنها قطرات مطر بعد طول انتظار.. تحمل معها شعورا بالرضا لا ينضب لدى القرويين في قرى سبّالة بن عمار، التي تمتد حقولها على مرمى النظر، بين تونس الكبرى وبنزرت .. يجنون ويعصرون ويدخرون، فيطمئنون للمستقبل بفضل زيت الزيتون مصدر الأمل والبركة
تبدأ بعد ذلك عملية فصل حبات الزيتون عن أوراق الشجر، قبل جمعها في صناديق، وفي كل مرة يمتلأ فيها الصندوق بحبات الزيتون، تعلو الوجوه لمسة من الاستبشار بمحصول زيت وفير وبغد أفضل مهما تكن عسرة الظروف. وهكذا تتوالى عاما بعد عام، مواسم جني الزيتون تروي تاريخا من تعب الرجال والنساء في هذه الربوع، ليصح قول محمود درويش “لو يذكر الزيتون غارسهُ لصار الزيت دمعا”
أيام العاملات في جني الزيتون بهذه الربوع تكاد تتشابه، وهي لا تخلو من عناء ومشقة، تبدأ بالاستيقاظ فجرا والتنقل على متن شاحنات العمال إلى الحقول للعمل لساعات طوال
الجميع يقولون إن “صابة” (محصول) هذا العام تقل عن محصول العام الماضي، لكن الشعور بالرضا بالمقسوم يطغى على كل شيء، إذ سرعان ما يغلب التطلع إلى العام القادم، على أمل أن يكون محصوله أفضل
يحتل زيت الزيتون مكانة جوهرية في دورة الاقتصاد التونسي، إذ بفضله ترتفع صادرات تونس نحو مختلف أرجاء المعمور. وفي هذه السنة يتوقع أن يتراوح إنتاج البلاد من زيت الزيتون ما بين 140 و160 ألف طن، مقابل 325 ألف طن (أي ما يعادل 1.6 مليون طن من الزيتون) في موسم 2017 – 2018
تمتد “الزياتين” أي حقول الزيتون، في تونس، على مساحة 1.8 مليون هكتار أي ما يمثل أكثر من 88 مليون شجرة زيتون. ويتم سنويا غرس 20 ألف هكتار بالزيتون بالإضافة الى وجود برنامج خماسي لغرس مليون شجرة زيتون سنويا في الشمال، نظرا للظروف المناخية الملائمة. ويشغل القطاع حوالي 1679 معصرة بحسب معطيات الديوان (المكتب) الوطني للزيت
وتأتي صادرات زيت الزيتون في مقدمة الصادرات الفلاحية لتونس بنسبة 40 في المائة، كما يوفر قطاع الزيتون ما بين 30 و 40 مليون يوم عمل في السنة، ويلعب دورا أساسيا في التنمية الجهوية والتوازنات الاجتماعية ويشكل بالتالي عامل استقرار لسكان المناطق الريفية و مصدر دخل لهم
وتساهم المساحات المخصصة لزراعة الزيتون في تونس بنسبة 8 في المائة من الإنتاج العالمي وهو ما يضع البلاد في مركز المنتج الثاني عالميا بعد إسبانيا، بحسب بيانات رسمية، تشير أيضا إلى أن القطاع يضم 309 آلاف منتج أي 60 في المائة من الفلاحين الذين يجنون مداخيلهم من قطاع الزيتون
في تونس تنظم العديد من البلدات والمدن مهرجانات وأعيادا لزيت الزيتون واحتفاء بالزيتونة، كما هو الحال في باجة وتبرسق وبنزرت والقيروان وكسرى والمنستير وغيرها. كما أن تونس طلبت رسميا، من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، إدراج اليوم العالمي للزيتونة في التراث الثقافي اللامادي
وتعد تونس عضوا مؤسسا منذ 1956 للمجلس الدولي للزيتون، الذي يضم 14 بلدا إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، منها المغرب والجزائر والأرجنتين ومصر وإيران والأردن ولبنان وليبيا وفلسطين وتركيا، وتمثل هذه الدول ما نسبته أكثر من 98 بالمائة من الإنتاج العالمي للزيتون